أوراق مصرية

يوميات سفر الى عروس النيل 

22 يناير ـ 7 فبراير 2020


1

  • لم أخطط لهذه السفرة. أنا المتردد الذي يغالب خوفه من مجهول السّفر، ويستشعر أخطار العبور إلى الضفة الأخرى بشكل مبالغ فيه. لماذا هذا الوجل؟ لماذا كل هذا القلق؟ ألهذا أستهلك عن البلد العربي أو الأجنبي المزار كمّا من الكتابات والمعلومات والمعطيات والصور؟ أم هي فقط غريزة البقاء تتجلى في لاشعور جماعتي الوراثية بهذا القدر من الارتياب والاحتياط بسبب تجارب تاريخية مريرة سابقة؟ رأيت منذ سنوات قليلة في زيارة لم تمسح بعد آثارها من ذاكرتي لجبل "مولاي الحسن" - أعلى قمة بسلسلة "سييرا نيفادا" بإقليم البشرات من جهة غرناطة - رسومات الإنسان على مجموعة من الصخور الناتئة التي صنع منها هذا الأخير أسلحة وملجأ يحتمي بداخله في العصر الجليدي من قساوة الطبيعة وخطر الوحوش المفترسة: صور لحيوانات مختلفة، بعضها كان يصطاده يشبه البقر البري، والبعض الآخر كان يخشاه. حاولت أن أتخيل وقتها كم بذل هذا الإنسان من الجهد والعناء للبقاء حيا والحفاظ على نسله. ألم يرتبط الانتقال في المكان القصيّ منذ ذلك الزمن البعيد بالخطر والموت والاندثار؟ بشكل غريزي، يمكن أن يطبق الفرد الواحد ما تعلمته أجيال سحيقة من جماعته عن تجارب العبور من مكان إلى مكان في أعالي الجبال: أي الانتقال الدائم لصيد الطرائد، والاحتراس المتواصل من المكان الغريب الذي يجهل كل شيء عن تضاريسه وحيواناته المفترسة.
  • مثل أسلافي، لا أنطلق خارج حدود بلدي إلا بعدما أستطلع خريطة المسالك بين المدائن، وتصاميم الأحياء. ولا أنهض لمتعة الجولان في الآفاق ـ تحرّكني رغبة وفضول ويقعدني أكثر من هاجس ومثبط ـ إلا بعدما أتوهّم أنه قد سيطرت على المكان الآخر المتخيّل، وأتسلح بنسخة مطبوعة من الدليل السياحي، وأضع في جيبي ما يفوق غالبا قوتي وزادي. عادة غير مثمرة، تشربتها ـ طفلا وصبيا ـ من موروث جماعتي في الحل والترحال أو اكتسبتها شيئا فشيئا من تربية محافظة لا تشجع على التفتح والانطلاق، ولا تحرض على المغامرة والاستكشاف، ولا تسعف على بناء الثقة في الذات.
  • ولم أقدر أن هذه الرحلة ستكون هكذا قريبة، أقرّرها بعزم نادر في لحظة وجيزة، بعدما أشبعت نفسي أوهام التسويف، وأجلتها أمدا طويلا. فمصر التي في خاطري وهمية إلى حد بعيد، امتلأتُ بألوانها وأطيافها وأشواقها النمطية منذ صباي وبعض شبابي حتى صارت مكلّفة ومضنية. سُحِرت زمنا ببطولات فريد شوقي وأحمد مظهر. وكم خفتُ من مكر محمود المليجي وشر عصابته الظالمة. وشغفتُ برقة فاتن حمامة وجمال أسمهان وليلى مراد ومريم فخر الدين. وانجذبت لشخصيات شكري سرحان وعمر شريف ومحمود ياسين. وبغيرهم من عمالقة الشاشة الكبيرة فتنتُ دهرا. أما في الطرب العربي، فكم أسهرتني أغاني أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ بشجوها. روايات مصطفى المنفلوطي ونجيب محفوظ وقصص يوسف السباعي كانت من قراءاتي المفضلة.
  • كذلك كانت مصر ـ بالنسبة لي  ـ جزءا من خريطة بصرية وصوتية مألوفة لا أتعرف على حساسيتي تجاه المواضع الأدبية والثقافية وأستشرف بعض ميولاتي الموسيقية والفنية إلا بواسطة ذائقتها الشرقية ومن خلال أفق كينونتها العربية والنهضوية. وهذا خطأ أحسبه الآن ـ بعد مُضي كل هذه السنين ـ فادحا  لمن تربّى وانتقل ـ مثلي ـ بأقصى الشمال الغربي، بين مدن العرائش وأصيلا وتطوان، في مناخ الحضارة الإسبانية والأندلسية: لباس وهندام وطعام وهيئة وعمران وعادات وصداقات وفنون وألعاب ومهرجانات إسبانية وأندلسية في أرض مغربية حديثة العهد جدا بالحرية والاستقلال. أو هو ـ بالأحرى ـ تنافس الغرب والشرق في معراج ذواتنا المغربية: «مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان»!     
  • قلتُ لكم ـ ولا أزايد قليلا أو كثيرا عليكم أنتم الذين جربتم مباهج السفر ومتاعبه ـ أني لم أخطط لمثل هذه الخطوة في شرق المتوسط مطلقا. فبعد عودتي محبطا من رحلة علمية ومهنية طويلة ومتعبة بوسط فرنسا كادت أن تتحول إلى غربة نهائية وقطيعة فكرية بلا أوبة، عشتُ زمنا لا أجد تموقعا اجتماعيا وثقافيا لذاتي ومشاريعي الفكرية إلا داخل الدائرة الذهنية والعاطفية الفرنسية بحكم عاداتي المكتسبة الجديدة وانشغالاتي العلمية والمنهجية وقتئذ بالجامعة المغربية. فرنسا بلد راق، وجامعتها متقدمة في الإنسانيات وكثير من العلوم الأخرى رغم كل ما يزعمه بعض الزملاء عن تراجع اللغة الفرنسية ورواج جارتها الانجليزية. إذا كان هذ ا العامل يفسر التأثير الهائل الذي مارسته الثقافة الفرنسية على تكوين جيلي، فإنه لا يبرر إهمالي التام للثقافة الإسبانية وآدابها الغنية طيلة أعوام التحصيل بمدينة ليون. شيء ما حدث بداخلي، وأصاب وجداني بما يشبه قصورا عاطفيا، هو الذي يعلل ربما لماذا تنازلتُ أو تغاضيتُ ـ أثناء غربتي اللاتينية  ـ عن صور مخيلتي المصرية وكليشيهاتها الأثيرة. تعقلنت مشاعري بدرجات كبيرة بسبب الاحتكاك اليومي مع الفرنسيين، وضرورة الاندماج في المجتمع الجديد، حتى صرت أنظر بنوع من التجرد إلى ثقافتي الموروثة كحال الإثنوغرافي في نظرته لثقافات الشعوب المغايرة المدروسة.
  • وفي غفلتي، أيام محاولاتي المستميتة للتأقلم مع بيئتي الاجتماعية الحاضنة الأولى التي اقتلعت منها على مدى عقدين تقريبا، وما تسبّبته لي إكراهات الواقع السياسي المغربي من أضرار وآلام وضمور، لم أزر أرض الكنانة قانعا بفكرة سخيفة. أنتظر - مثل كثيرين من الجامعيين - فرصة حضور ندوة أو زيارة معرض كتاب على إثرهما أتخيّل أني سأحظى بالمحروسة، وأزور بلدا وأمة في الحضارة عريقة... هكذا خمّنتُ عاجزا، وهكذا ظننتُ واهما. بينما أسرع غيري في السفر إلى قاهرة الأهواء، ففاز برضى الجميلة...
  • كنت أفكر في كل ذلك وأتعجّب حقا من حالي، والمسافرون - أغلبهم من أبناء جلدي في مرآة إقدامهم أسترجع بعض هدوئي - محتشدون حولي يهرولون في الممر الضيق كالأنعام، أو هم أكثر عجلة وقلقا من أهل القيامة، بعضهم يبحث عن رقم مقعده، والبعض الآخر يضع حقائبه الكثيرة تحت جناحي الصقر الفرعوني الضخم.
  • كنت كذلك أتمتع بخلو ذهني بغتة من مضايقات الإنشغالات اليومية التي تركتها ورائي وارتحت، وأسبوع الأستاذ الباحث مليىء بأنواع لا حصر لها من الواجبات التربوية والعلمية من تدريس وإشراف وتأطير، وتحرير مقالات ودراسات وكتب، عدا العضوية في هذا المجلس أو تلك اللجنة، والتحضير لأعمال ندوة، إلخ. وأتأمل تحوّل أهواء جسدي في ضوء المسافات الفاصلة التي شرعنا في قطعها منذ منتصف النهار ما بين تطوان وطنجة في الحافلة، ثم ما بين طنجة والدار البيضاء وقد قلّصها القطار السريع إلى سويعات من عذاب الانتقال: في كل سفر جوي، وبعد أكثر من نصف قرن، ما زلنا نخضع - نحن البعيدين عن العاصمة الاقتصادية - لتخطيط السياسة الجوية الاستعمارية الفرنسية، ونضطر إلى النزول نحو الجنوب مرغمين... 
  • أستغرب أثناء استراحتنا في إحدى مطاعم الوجبات السريعة بمحطة القطار "كازا فواياجور" أيّما استغراب من مصادفات الأيّام التي دفعتي ذلك النهار الماطر بتطوان المركز إلى وكالة الأسفار للاستفسار عن مواقيت الرحلات الجوية بين المغرب ومصر. ولا أكف عن السخرية من غرائب الاتفاقات التي دفعتني بمكتب صاحب الوكالة -وهو معرفة سابقة - في هنيهة إلى اختيار برنامج شامل للبحث والسياحة بمصر خلال أسبوعين. وأدهش من قوة المفاجآت التي ما أظن ـ ولعلّي واهمٌ مرة أخرى في التقييم والاستنتاج - إلا أنها قُدّرت لأمثالي كهِبةً مستحقّة على مساراتهم الكادحة في حياة أرضية - قد يراها اليوم بعض الأذكياء والظرفاء غير مربحة جدا في أوطاننا - قضوها  في الطلب والعمل واقتباس بعض العلم ونشره بين الناس قدر المستطاع. كذلك كانت تسعى به الخواطر المشتتة، وتضطرب المشاعر المختلفة في مطار محمد الخامس الدولي بالدار البيضاء، لمّا غادرنا في منتصف الليل قاعة الانتظار وتوجّهنا عند سماع نداء مضيفة الطيران نحو نقطة الإركاب الأخيرة. 
  • ويعلم الله كم استأثرت بي تلك الحالة الداخلية الغريبة من الذهول والعجب والإشفاق على الذات وتهيؤاتها عندما ركبنا طائرة الخطوط المصرية الفسيحة ‘‘البوينغ 737ـ800‘‘ بأيقونتها التجارية المميّزة في واجهة قمرة القيادة ‘‘رأس الصقر‘‘.  أكاد لا أصدّق أني الليلة مسافرٌ فعلا إلى عروس النيل، لولا أن زوجتي كانت ترمقني، لا تخفي سعادتها البالغة بهذه الزيارة غير المتوقعة، كأن لسان حالها يقول لي: 
- بالله عليك، يا  رفيق العمر، متى فكرت حقا في هذه السّفرة؟ وأيّ ملك أو مارد هذا الذي أخرجك بقدرة قادر من كسل المكتب وعاداتك القبيحة في الظعن والتدريس والبحث!؟ 

  •  وصدّقتُ الحدث أمام إلحاحها. ثم إنها كانت تعيدني إلى حقيقة وضعي الأبويّ، حين تستفسرني، من حين لآخر، عن بعض أمتعتنا التي قد يحتاج إليها ابننا الصغير أثناء الرحلة. ها نحن نسافر... ها نحن نقصد أرضا نخالها أليفة أخيرا في مهمة علمية وسياحة ثقافية معا.


        


Commentaires

  1. جميل..في انتظاراتمام فصول الرحلة بعين ثقافية وناقدة ...
    دمت متألقا

    RépondreSupprimer
  2. رحلة مشوقة في انتظار بقية السفرات، تقديري لقلمك المبدع.

    RépondreSupprimer
  3. اشتقنا الر ادب الرحلة. دمت باحثا رصينا ودام لك التألق

    RépondreSupprimer

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

ملامح العالم المتحول بعيون مغربية: أنماط الكتابة الأدبية وأشكال السياحة الثقافية في كتاب عبد اللطيف شهبون الجديد "من أرض الله.. ـ أعمدة" (2019)